شبهة حول قول الله: (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة) وإسكانه الجنة
سورة البقرة 30-31
وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ {2/30} وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ
السؤال : هنا يتكلم وكأن الله يستشير الملائكة في عملية خلق الإنسان وأن الملائكة اعترضوا عليه وأنهم يعلمون ما لا يعلم بأن الإنسان سيفسد الأرض ويسفك الدماء . وكأنهم يغالطون الله في ما يفعل . والله يجيبهم إني أعلم ما لا تعلمون , وكأن الله الخالق يدخل في مجادلة مع مخلوقاته . ثم يقول أن الله علم آدم الأسماء ولم يقل ما هي أو لمن ، ثم عرضها على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين . وهنا أيضا مجادلة للخالق مع المخلوق في موضوع الأسماء.
وهل هم صادقين أكثر منه أم من آدم. كيف يكون هذا ؟؟؟
إنتهت الشبهة
لنبدأ بأسم الله
الـــــــرد
البَقَرَة
آية رقم : 30
قرآن كريم
وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُّفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ
المشكلة التي دائماً تقابل المسلمين في رد الشبهات أنها يستقبلوا هذه الشبهات من أشخاص في قمة الجهل باللغة العربية .. وهذا هو السبب الحقيقي الذي أحاول دائماً توضيحه في أي موضوع أطرحه
فلو نظرنا إلى الآية الكريمة نجد قول الحق { وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلمَلائِكَةِ } ويَدَعوا بها أن الله يستشير ملائكته في الخلق ... ولكن حال الضلال الذي هم فيه يجعلهم يغمضوا أعينهم عن { إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً } ، لأن هذا الجزء الواضح في باقي الآية يظهر أن الأمر مفروغ منه ، ولكنه إعلام للملائكة .. والله سبحانه وتعالى عندما يحدث الملائكة عن ذلك فلأن لهم مع آدم مهمة ، فهناك المدبرات أمرا ، والحفظة الكرام .. وغيرهم من الملائكة الذين سيكلفهم الحق سبحانه وتعالى بمهام متعددة تتصل بحياة هذا المخلوق الجديد .. فكان الأعلام .. لأن للملائكة عملاً مع هذا الخليفة
ونجد في قول الملائكة
{ قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُّفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ }
والسؤال : كيف عرف الملائكة ذلك ؟ فلابد أن هناك حالة قبلها قاسوا عليها ، أو أنهم ظنوا أن آدم سيطغى في الأرض ، ولكن كلمة سفك وكلمة دم ، كيف عرفتها الملائكة وهي لم تحدث بعد ؟ لا بد أنهم عرفوها في حياة سابقة
قال تعالى
الحِجْر
آية رقم : 27
قرآن كريم
وَالجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِن نَّارِ السَّمُومِ
فإذن الجن قد ُخلق قبل الإنسان .. والمعروف أن إبليس من الجن .. وكان وجوده قبل خلق آدم
فأين هي المشكلة ؟
وقول الحق سبحانه وتعالى
{ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُون }
فمعنى ذلك أن علمك أيها المخلوق مناسب لمخلوقيتك ، أما علم الله سبحانه وتعالى هو علم أزلي لا نهائي .. لأن الملائكة قالت { وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ }
فالتسبيح : هو التنزيه عما لا يليق بذات المنزه
والتقديس : هو التطهير .. مأخوذة من الْقَدَس ، وهو الدلو الذي كانوا يتطهرون به
فالتسبيح والتنزيه لا يكونان إلا للكمال المطلق الذي لا تشوبه شائبة .. والكمال المطلق هو لله سبحانه وتعالى
لذلك لا يليق أن يرفع إليك يا الله إلا الطاهر ، ولا يليق أن يصدر عمن خلقته بيديك إلا طاهر
فأراد الله عز وجل بحكمته أن يرد على الملائكة فقال : { إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُون } ولم يطلقها هكذا ، ولكنه سبحانه أتى بالقضية التي تؤكد صدق الواقع
قال تعالى
وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى المَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ
يجب أولاً أن نعلم أن آدم عليه السلام مخلوق من طين ، والملائكة مخلوقة من نور .. إذن فالملائكة عنصر أعلى من البشر ذات العنصر الأدنى ... والله عز وجل علم وأعطى الأدنى أكثر من الأعلى
فنفهم من ذلك أن الله سبحانه وتعالى وحده هو الذي يعطي ذلك ليذكرنا أن ما نأخذه ليس بقدراتنا ولكن بقدرته هو سبحانه ، والله سبحانه وتعالى لا يحب الغرور من خلقه ، ولذلك يأتي الله بآية تميز الأدنى من الأعلى لنتعلم جميعاً أن كل قدراتنا ليست بذاتنا ، وإنما هي من الله .. كما أوضح لنا الحق سبحانه وتعالى ما حدث بين
سيدنا موسى عليه السلام النبي الرسول ومع الخضر وهو العبد الصالح ما لا يكن يعلمه
وكذا سيدنا سليمان عليه السلام والهدهد الطائر الضعيف الذي أتى بنبأ عظيم قد خفي عن نبي الله
فقد علم الله سبحانه وتعالى سيدنا أدم عليه السلام كل المسميات وألهما الله له
والعجيب أن الطريقة التي علم الله سبحانه وتعالى بها سيدنا آدم عليه السلام هي الطريقة نفسها التي تتبعها البشرية إلى يومنا هذا .. فنحن عندما نعلم الطفل فلا بد أن نبدأ تعليمه الأسماء والمسميات ، ولا نعلمه بأن نقص عليه الأفعال .. فنقول له : هذا كوب / هذا جبل / هذا بحر / هذه شمس / هذا قمر
وبعد أن يتعلم المسميات يستطيع أن يعرف الفعل ويتقدم في التعليم بعد ذلك
وهكذا نتعرف على النشأة الأولى للكلام .. وطلاقة قدرة الله سبحانه وتعالى علمت سيدنا آدم عليه السلام الأسماء
ولو حاول بعد المشككين يدعي جهله بهذا الكلام ويريد أن يعرف ما هو علم الأسماء الذي علم الله به آدم عليه السلام
نقول له يا مسكين
كل شيء في الكون لو أعدته إلى أصله تجد أن أصله من الله ، فلو أعدت البشرية إلى أصلها فلا بد أن تصل إلى أصل الإنسان الأول .. خلقه الله سبحانه وتعالى
ولو أعدت العلم إلى أصله وتجد أن كل علم يحتاج إلى معلم .. والمعلم تعلم من معلم سبقه ..الخ .. حتى نصل في النهاية بأمر بديهي أن العلم بدأ بمعلم علمه الله سبحانه وتعالى .. وكان هذا هو المعلم الأول
فطالما أننا نحمل ذرة من ذرات خلق سيدنا آدم عليه السلام ، فكذا نحن نحمل علم من العلم الذي علم الله سبحانه وتعالى سيدنا آدم عليه السلام ولو اختلفت الألسنة
وقول الله سبحانه وتعالى { إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِين } ... فهل يكذب الملائكة ؟
ولكن المقصود .. بما قستم عليه الأحداث ، أو فيما قلتموه ضرباً بالغيب
ولو أن الملائكة قاسوا حكمهم على حكم جنس آخر كان في الأرض كالجن مثلاً .. فيقول الحق سبحانه وتعالى إنكم أخطأتم في قياسكم هذا ، أو إن كنتم صادقين فيما تنبأتم به من غيب ، فلا يعلم الغيب إلا الله تعالى .. فالقياسان جانبها التوفيق
وليس هذا طعناً في الملائكة ، ولكنه تصحيح لهم ، وتعريف لنا بأن الملائكة لا تعلم الغيب
السؤال
من يقرأ القرآن بتمعن يصل إلى آيات بينات يحتار في فهمها وتزداد حيرته حين يرى مجموعة من الآيات في نفس الموضوع ولكن يختلف فيها الخطاب. من المؤكد أن لاختلاف الخطاب هذا تفسير ما لذا ألجأ إلى الأخوة في السبلة ليوضحوا لي ما خفي علي، علما بأني لجأت إلى بعض كتب التفسير وقرأت تفسير كل آية منها على حدة، ولكني لم أجد جوابا على تساؤلاتي التي تثيرها القراءة المجملة لبعض الآيات فمثلا
قال الله في محكم كتابه العزيز: (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا اتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لاتعلمون
[البقرة: 30]
وكذلك قال
(وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين)
[البقرة: 35]
من الآية الأولى نرى أن الله سبحانه وتعالى خلق آدم ليجعله في الأرض أي يسكنه فيها ولكن بدلا من ذلك أسكنه الجنة وسمح له بأن يأكل منها هو وزوجته رغدا، فلماذا لم ينزل الله آدم إلى الأرض بعد خلقه وبعد أن علمه كله شيء؟
ولماذا بدلا من ذلك أسكنه وزوجه الجنة؟
ويقول الله في محكم كتابه: (إن الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها لا تفتح لهم أبواب السماء ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط وكذلك نجزي المجرمين
[الأعراف: 40]
وقال أيضا: (فدلاهما بغرور فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين) [الأعراف: 22]. وإبليس استكبر على الله سبحانه
(إلا إبليس استكبر وكان من الكافرين)
[ص: 74]
فإذا كان إبليس من المستكبرين ومن الكافرين فكيف استطاع أن يتجاوز أبواب الجنة المقفلة التي لا يفتحها إلا خزنتها المكلفون بحراستها
(وسيق الذي اتقوا ربهم إلى الجنة زمراً حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين)
[الزمر: 73]
أليس خزنة الجنة الذين لم يستطيعوا منع الشيطان من الدخول إلى الجنة هم المسؤولون عن دخوله وغوايته لآدم وزوجه؟؟
وآدم حديث عهد بالحياة والشيطان كان ملكاً يعبد الله من آلاف السنين فليس هناك تكافؤ بين الطرفين فلماذا عاقبه الله سبحانه وتعالى هذا العقاب الأليم فأنزله على جبل سرنديب في الهند وأنزل زوجه وحيدة في مكان ما قرب مكة؟؟
فتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد
فقبل إجابتك ـ أخي الكريم ـ على تساؤلك نحب أن ننبهك إلى أمور
الأول: أن التعارض بين آيات الكتاب مدفوع، وما قد يبدو للناظر من تعارض، إنما هو بحسب فهمه هو، لا أن الكتاب مختلف على الحقيقة، فالله يقول: (ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيراً)
[النساء: 82]
الثاني: أن فهم الكتاب الفهم الصحيح لا يتأتى إلا لمن أوتي أسباب الفهم وهي كثيرة، منها: العلم باللغة التي أنزل بها القرآن، والعلم بطريقة السلف في تفسير الكتاب، ومن قصر علمه عن بعض ذلك، فقد ترد على قلبه شكوك وإشكالات. والله المستعان
الثالث: أن الله من أسمائه الحكيم، والحكمة صفة من صفاته الثابتة له على وجه الكمال، فهو منزه سبحانه عن العبث في أفعاله وأقواله، فمن خفي عليه وجه الحكمة في فعل من أفعاله تعالى، أو قول من أقواله، فليتأمل وجه الحكمة في ذلك، سائلاً الله العون والفهم، مستعيناً بكلام أهل العلم، فإن فتح الله عليه، وإلا فعليه بالسؤال، فإن وجد ما يشفي فبها، وإلا فليكل ذلك إلى الله
وبعد هذه المقدمات التي هي قواعد في التعامل مع كتاب الله عز وجل، وفيما أشكل فهمه، نجيب عما سألت عنه، مستعينين بالله
أما قولك: كيف قضى الله أن آدم سيكون خليفته في أرضه، ثم أدخله الجنة؟ فنقول وبالله التوفيق: إن الله تعالى وإن أخبر أن آدم سيكون خليفته في أرضه، إلا أنه لم يقل: إنه سينزل إلى الأرض فور خلقه، حتى يُعْتَرَض عليه بما ذكرت، وإنما أخبر انه سيكون خليفة له في الأرض، وقد وقع ما أخبر به ـ سبحانه ـ كما قال
وأما عن الحكمة في ذلك فهي ظاهرة ولله الحمد. وهي بيان حقيقة إبليس، وإنه وإن ظهر بمظهر الناصح إلا أنه العدو المبين، ولا يخفى أهمية هذا الدرس، إذ هو تحذير من عدو سيلازم البشرية إلى قيام الساعة. ومن الحكم أيضاً كرامة الله على عباده إن هم أطاعوه، وهوانهم عليه إن هم عصوه، وهذان الأمران هما مناط النجاة في الدنيا والآخرة
ومن الحكم في ذلك أن الله تعالى قد كشف لآدم وذريته من بعده طبيعتهم البشرية، وجوانب الضعف في شخصيتهم، كحب البقاء والملك، وعدم الصبر عن المناهي، وأن الرجل والمرأة في المسئولية والتكليف سواء.. إلى آخر ما هنالك من الحكم
وأما إشكالك الثاني: وهو في كيف أن إبليس دخل الجنة، وقد قضى الله أن لا يدخلها المستكبرون الكافرون؟ فلا تعارض بين الأمرين، ذلك أن من شروط ثبوت دعوى التعارض اتحاد الزمن، وهذان الأمران في زمانين مختلفين، فدخول إبليس الجنة كان في بدء الخليقة، وما قضاه الله عز وجل من عدم دخول الكافرين الجنة هو في يوم القيامة، فافترقا زمناً فبطل التعارض
ثم إن الله أدخله الجنة لحكم يعلمها ـ كما ظهر لنا بعضها ـ ولله أن يفعل في خلقه ما يشاء، لا يسأل عما يفعل، وكان هذا ضرورياً لتظهر حكمة الله من الإهباط إلى الأرض، واتخاذ بعضهم بعضاً عدواً، ويظهر الفرق بين المنزلتين في الدنيا والآخرة
أما كيف أن الله عاقب آدم فأنزله في الهند، وأنزل حواء قرب مكة، فهذا من الإسرائيليات التي لم تثبت صحتها في شرعنا، ولو صح ذلك لكانت الحكمة فيه ظاهرة، وهو أن هذا درس من دروس الحياة، وأن مبناها على الكفاح، فما من غاية من غاياتها، ولا حاجة من حاجاتها، إلا وتحتاج إلى جهد وكد لتحصيلها، وأن هذه طبيعة الحياة، تفرق بين الأحباب وتباعد بين الأصحاب. وحبذا لو اطلعت على كتب التفسير الموثوقة كتفسير الحافظ ابن كثير وغيره، فإن ذلك سيعين على إزالة كثير من الإشكالات بإذن الله
والله أعلم